كانَ حُلْمُ فَرْحَة رَجلًا يُشعلُ لَهَا قِنْديلَ قَلبهُ، تلتمسُ فِيه دِفْء الحَياةِ ، يَجْعلُهَا ِمِشْكَاةَ لَيلهُ، كلما اِشتدّ صَقِيعَ العالمِ وَ وحشته، كِنَاسٌ تَلجأُ إليه كلّما خَيَّمَ الظَّلاَمُ على أَعَينها. 

يكنْ لها الزَاد و العِتاد عِندمَا يَنقطِع بها الرجاء.تَذَكَّرَت خِطبتَها علیٰ أحدِ زُملائها في الْمَرْكَز التِّجَارِيّ الّذي عَمِلتْ فِيه، لكِنّ سُرْعانَ مَا اِنكشفتْ حَقيقتهُ وانْجَلتْ هيئتهُ المُغبرةِ فِي الرَّكضِ وَراءَ الفتياتِ وَجعلهُنَ مَصايِد يَهربُ إليهن مِنَ مَشاقِ الحَياةِ، يُنفقنَ عليهِ مُقتَصّا بعضا من رَواتبهُنَ بِكلامِهُ المَعسولِ و وعودَهُ الزَّائفةِ بالزَّواجِ مِن اِبن الأَكابر، سليل الحَسبّ والنَّسبِ.

وانْفصِلَا وعَادتْ تَجُرُّ أذْيالَ الخَيبة تُصبُّ لَعَّنْتُها علىٰ شَبابِ هَذا العصرُ و تندُبُ رُجولتهم النّافقةِ.كانتْ نظراتُ الأبِ الحَانيةِ تَحُوطها، تعهّد إليها بالطمأنينةِ وسَكينةِ النفسِ، كُلّما لمحَ في عَينها دَمِعة آيلة للسقوطِ تُغلفُ بُؤْبُؤُها، مَسحَها بيدِ المحُبِّ دَافعَا عَنهما أية حزن ويأس .

قَائلًا : الخَيرُ كُله فِي الرِّضَا، لمَّ القلق و الحيرة ?! 

يَا بُنيتي زَوجُكِ مَحفوظٌ فِي لوحِ السَّماءِ .كَانتْ أمُّ فرحَة كُلّما سمعَتْ حِوار زَوجهَا و اِبنتها أقْبَلتْ ْضَاحكةً مُسْتبشرةً بقَدحين مِنَ الشَّرابِ الذي دأبَ النَّاس تَقدِيمهُ في الأَعرَاسِ والأفراحِ وحَفلاتِ النَّجاحِِ ،كبشارة مُقَهْقِه : قديمًا قَالوا في الأَمثالِ“اللي تتجوز الديب بيتها من الغابة قريب”ما زلتِ صَغيرة لقدْ تَزوجتُ أَبيك وأنا اِبنة السبعةَ عَشرَرَبيعًا وتَركتُ تَعليمي عِندمَا أنجبتكِ وإِخوتكِ . 

آنذاك البيوت كانت ضَيِّقة و القلوب رَحْبة الآن تغير الحال صارت البيوت وَاسِعة والقلوب تَضِجّ فيها وتجزعُ منها. الرَّجلُ الصَّالحُ خَيرُ رِزقٌ يا نورَ عَيني ومُهجةَ قلبيلَو كنتُ تَركتهُ لنَدمتُ عُمري كلّهُ شَرّ ندامةٍ، لذا أقول لا تندمي.

وبَيْنَمَا يَتحاوَرون طَرقتْ البابَ جَارتُهم المَصون أمّ ” عبد الرّحمن” تزفّ اِليهم خَبر عَودة فَلذة كَبدها من إحْدىٰ البُلدانِ الأجنبيةِ غَيرَ العَربية بَعدَ ثلاث سنوات قَضَاها فِي غُربته وأخذ إِجَازَتهُ ثَلاثة أشهر حَتىٰ تَمرّ أزمَة كُورُونَا .

اِقتربَتْ مِن أُمّ فَرحة وسَحَبتها مِن يَدهَا إلى إِحدیٰ زَوايا البيت هامسةً:لقدْ حَدثتُ “عبد الرحمن” فِي أَمرِ فَرحْة وطَلبتُ مِنهُ عَقَدَ قِرَانها، اِطمَئِني لَنْ تَتزوجَ خَارجَ هَذه الْجُدْرَان “الْجَارُ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ”اِنها اِبنةَ قَلبي رَبيتُها وأعرفُ خُلقها وتَعرفُني أَيضًا، لمّا أَتركهُ يواعدُ أحدهنّ و تتلاعبن بِه، أريدُ أَنْ أحَملَ أَحْفَادي قَبل أَنْ أقابلَ وجه الكريم،تَحَيَّرَتْ أم فرحة فِي أَمْرِهَا ثُمَّ أردفتْ :لعلّه الخير : أُشَاورهم والخَير فيما اختاره الله .كان عَبدُ الرّحمنِ ، مُهيب الطَّلعةِ، حسن الخلقِ، طَوِيل القَامَةِ عَرِيض الْمَنْكِبَيْنِ، عيناهُ ليلًا طويلًا يَغضّ النّاظر إليهما طَرفه، من شدتها يتَراجَعَ أمامهما مَهْزومًا.نَشَأ فِي بَحْبُوحَةٍ مِن الْعيشِ ورغدِ الحياةِ ،أَحبّ أمّهُ حبَّا جَمًا، لا يَرفضُّ لأجلها طلبًا ، حتىٰ لَوْ تَتطلبَ الأمرُ حَياتهُ ومَصيرهُ والهَواء الذي يتنفسه، كَذا دِرَاسته للهندسةِ و المِيكَانِيكا كَانتْ تطلعات أمّهُ التي وجدتهُ امتدادًا لدربِ أبيه وَجبَ عليه أَن يَخطوه وأَلا يَحيد عنهُ .

مَرتْ ثلاثة ليال أَضَاءتْ فرحة بنُور وجهها حَياته وأعلنتْ خِطبتهما عَلَىٰ الْمَلَإِ، اِمتلأ قَلبهُ وعَيْنَهُ بِحُسْنِ جَمَالِهَا وطيب خلقها، حَفرَ كلّ تَفصيلةٍ لا يُنتبه إليها أحد، رَسمَ عَقله كلّ كَلمةٍ نازقةٍ وحَرفٍ عن قصدٍ أو بِدونهُ.لمْ تكُ رُسمتْ مُخيّلته صُورة لعَروسِ أحلامهُ قبل ذلك ، أو رأی في اِختيار زوجه أزمة. 

الأهم هو إرضاء أمه الذي ضَحَّتْ برَيْعَانِ شَبابها كَي تُربّي وحيدُها، اِنطلقَ “عبد الرحمن” يَعدُّ عُشَّ الزَّوجيّة بكلّ شَغفٍ ويَفرشهُ بكلّ مَتَاعٍ تَحتاجهُ الحَياةَ العصريةِ.لمْ يَمْلك” والد فرحة” الكثير لتجهيزِ شُوَار اِبنتهُ خَاصةً فِي تِلكَ المُدّة الزّمنية القَصِيرة، لو زَادَ فِي مُهْلَتِهِ قليلًا. 

هكذا حدّث نفسه ، فقد كانَ تَعليم أَبناءهُ يَأخذُ الكثير من نَفقاتِه ومعاشِه هو مصدر الدخلِ الوحيدِ.اِقتَحَمتْ “أم فرحة” خُلْوَة زوجها التي أَشَارتْ بالاِقْتِرَاض منَ أحدِ البنوكِ الأَهْلِيّةِ كَي تسترَ بهِ اِبنتها الوحيدة وقدْ كان ..كافيّا لجلب الأساسيَّات التي تَعَمَّرَ شِقَّتها

 لكن ” أم عبد الرحمن” لم ترضيها بساطة الأشياءِ, تَعارَكَا على أحد الشَرَاشِف و اِتَّهَمَتْ “فرحة” مُشكَّكة في نَوَاياهَا, جاعلة الطمع في اِبنها زَمْجَرَة ونفيرا وأنها اِسْتَعْجَلَت هذه الزِيجَة .

سمعَ الابن حديثَ أمّه فتَغَيَّرَتْ دَواخِلُه أشياء و حَلَّت أشياء أخرى أكثر ضجرًا وضجيجًا، اِنْطَبَعَتْ صورة اِنفعال الأم رَدّ فعل “فرحة” تعالي أصواتهما, تَرَاءَىٰ شكل المستقبل القريب, عقَد ناصيتَه على فَسْخِ الخطبة حتى بكتْ أمّهُ مترجيةً ألا يفعل خوفًا من كلامِ الناس والكلام الذي سوف يطال كنّتها التي لاَ تَشُوبُها شَائِبَة.خِلاَلَ أيامٍ …

حَلَّ يومُ العرسِ و تَزَيَّنَتْ الموائد بأشهىٰ الأَطايِبِ و الولائِم , علقت الأَضْوَاءِ وحَلا السهر والنغم, وارتدتْ الدَنا كامل حُلتها حتى فَاضَ دمع سعادتها.

جاءتْ الضّيوف من كلّ صوبٍ و فوجٍ مُهنِّئين ومتمنين للعروسين الرِّفاءِ والبنينِ.لمحتْ ” أم عبد الرحمن” وَجه وحيدها عابسا فأَوْمَأَتْ لهُ مِرارًا وتكرارًا, فكّ كِشْرَته.لم يَرسمْ اِبتسامةً واحدةً صَادقةً , ظلَّ على مَوْقِفِهِ بِوَجْهٍ جَهْمٍ طيلة ليلةِ العُرس .

تمنت “فرحة” المُتوجسة من الفرحة أن تمر ليلتها بهدوء, رقصتْ أمّ العروس حتى خدرتْ أقدامها وحلَّ التعب عليها ، وانتهى العرسُ سريعًا, وأبا فرحة لا يصدقُ أنّ الأمر مرّ بسلام فقد كان يفسد عليه فرحته, تلك الدمعة ذاتها التي تغلف بؤبؤ عينيها باقية في مخدعها،قضى ليلتهُ قلقًا مضطربًا ,كَما البحر الهَدَّار في ليالي الشتاء تضربُ جلمود فكره الوساوس فتشطر رأسه نصفين، مجتمعٌ عليه شخير “أم فرحة” التي هدتها وصلة الرقصيردد مستغفرا يطرد شرار هواجسه مستسلما لأعيائه بين حُلمه ويقظته حتى أذن الفجر فصلى وجلس يرتل ورده اليومي . .

طُرِقَ الباب في الخامسة صباحا:فإذا البواب يحمل كرتونة , أشار عليه زوج ابنته بتسليمها لحَمَاهُ .

الذي يسكن معهما بنفس العمارة, فتح الأب الكرتونة فأطلق صرخة مدوية أغضبَتْ السّماء, اِهْتَزَّتْ لها الجبال وخرتْ الملائكة لله وخشعتْ الأرض وقلقلتْ الطيورُ في أعشاشِهَا، هَاجَت الْعَوَاصِف وماجتْ البحار مُنذِرة بغضب شديد، سَقَطَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ ولم يعد من غَشْيته ثانيةً لوجه الأرض وصعدت الروح لبارئها تلتمس رحمته ,ترجو أن تقيم عدالته لحظتها.أما الأم لم يحرك لها ساكن , في جلستها ذاتها ليومنا هذا, رافقت روحها زوجهاوظل جسدها معلق بطينته .

خلال الساعة اجتمع الجيران والشارع وطلبت النجدة أما  عبد الرحمن كان في انتظارهم هادئ البال ، بدم بارد وأعين منطفئة، أشبعها جمر الانتقام وخَمَدَ لَهِيبُه. مقرَّا بذنبه , أُحِيلَتْ الأوراق و حينما سُئلَ :بأيّ ذنبٍ قُتلتْ ؟!

كانتْ اِجابتهُ الوحيدةِ ” لا تستحقُ أن تحْيا منْ أغضبتْ أمِّي ” كي تكون عِبرة لبناتِ جيلها، حياتي فداءَ أُمّي, وكلّ أُمِّ بعدَ أمِّي .لستُ مجنونًا، مختلًا ، كهذا العصرُ المعاق، أُحتفظُ بكاملِ قوايّ العقليةِ وارتسمتْ على مَحياهُ لأولِ مرةٍ ضحكةٍ لمْ تُخرسها إلا يدَ عشماوي.ما زال معلق صداها عبر الأثير على مقْصَلَة الأيام .

تمت بفضل الله – من واقع الحياة المرير21-1-2021 س 12

تم عمل هذا الموقع بواسطة