قراءة نقدية في رواية السادات والهدهد الروائي جلال صادق ـ بقلم هويده عبد العزيز

توطئة

إن القضية الفلسطينية غير موكلة لشعب, أو مفوضة لدولة, لأن فلسطين مهـــد الأديان وملتقى الحضارات ونقطة عبور والتقاء للعالم أجمع، لذلك حاضرة مخلدة في الذاكرة و الوعي الانساني والضمير العربي يعكس صراعها الدامي وقلقها المترامي أدبيات عالمية وعربية يقظة، أقلام واعية وعقول فطنة شكلت رؤاها وتفاوتت فيما بينها محتواها مضاءة بالعزيمة والتحدي, كفعل مقاوم ومناهض للصهيونية. فلسطين اليوم ليست فلسطين الأمس، فلسطين التي عزلها العالم؛ حررها الأدب من طيها وسجنها الأبدي وقبضة المحتل و أفرد لها جناحا من الحب والعزم والسلام, وأكاد أجزم لم يحظ بهذا الحب والاستئثار من الحقول المعرفية كما فعل الأدب.ومن ضمن الأدبيات التي عكست الضمير الإنساني الحي وقضيتنا كتاب “دراما اليهود الأوروبيين” للمؤرخ الفرنسي بول راسنييه ، وهو أول كتاب نشر حول إنكار حدوث الهولوكوست وأيضا كتاب “الحكم المطلق” في عام 1962 للأمريكي “فرانسيس باركر يوكي” والذي عبر عن الهولوكوست بأنها “كذبة القرن ” مؤكدا  على أن معسكرات الموت لا أساس لها من الصحة ومشيرًا لعدم  وجود وثيقة رسمية واحدة تذكر تفاصيل عمليات الهولوكوست وأن إبادة ملايين اليهود هو رقم مبالغ به كثيرًا, وأنها كانت خديعة اسرائيل الكبرى لانتزاع الحق الفلسطيني. وأثمر الصراع العربي الإسرائيلي حتى الآن عن هجمات شرسة لا سبيل لحصرها وخمسة حروب كبرى و تطهير عرقي وتهجير للفلسطينيين وما بين وعد يقتضي فناء الأول وحق منتزع , لم تستطع أي قوى تعزيز التعاون العربي الاسرائيلي وإن وجدت فهي شكلانية, سرعان ما يكشر عن نابه ويكشف نواياه الخبيثة المحتل الغاشم متى وأين وفى بالعهود؟ وهم قتلة الأنبياء والرسل .. وبينما تعزف أناشيد السلام تارة و تقرع طبول الحرب تارة أخرى، تظهر بقوة ملفات التطبيع وتشتبك العلاقات الدُّولية العربية وتتضارب المصالح, يتمدد العدو أكثر فأكثر, فيصبح قوة اقليمية. و يظل الشتات العربي الفلسطيني متجليًا ليس في الواقع المعاش بل و في الأعمال الروائية والشعرية كمرآة حقيقية تعكس هذا الصراع الوجودي كفعل مقاوم ما بين (أدب النكبة والانتفاضة والمقاومة والسجون ) تستنهض رؤى فكرية وروائية و نقدية وابداعية و توظفه في قالب حداثي, تعبر عن معاناة شخوصه, وتكشف عن تناقضاتهم الداخلية وعوالمهم الخفية في رؤيا وأعمال خلاقة مستحدثة مستمدة من التاريخ العريق  والتراث الأصيل والدين الحنيف وعلم الاساطير والشخصيات التاريخية ،سواء بالاستدعاء والاستلهام لتوجيه دفة الدلالة والغاية لنصرة الحق او لزهق الباطل ورد الأمور إلى مسارها  الصحيح وما مسلك أهل العلم و الأدب الا تبيان الحق واعلاء كلمته.

 ..السـادات والهدهد – رواية

لا شيء في الكون وله كينونة ينطلق منها, لم يأت هذا الكائن الفضولي من العدم , به تتم عمارة الكون وبوجوده تختبر الحياة و أمام الحياة ينتصر الموت لأنه هاذم  اللذات وأمام الموت تتجلى عظمة الحياة والقدرة على التحدي والتصدي للزلل والصعاب, وبالموت و الحياة يختبر الوجود استنادا لقوله  “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)الملك . 

هكذا عالم الرواية لا يتجزأ عن الواقع المعاش بوجودها تختبر حيوات أخرى ,قد ندركها لكن لا نعى قيمتها ونحيا بها حياة المتمتع بالمنحة الربانية ,حتى تطوى الصفحة الأخيرة وتنتهي الحكاية ويُفقد معناها .يعتبر العنوان أحد عناصر البناء الروائي ,فاتحة العمل الأدبي به تفتتح أليات التأويل, ويكشف الحجاب عن جوهر العمل الروائي, علامة فارقة تسِم البناء ولا يستطيع الناقد  والقارئ  النهم أو أية دودة كتب تخطي عتبته دون أن تثير فضوله  وتلقيه في جب التساؤلات, فأين تموضع العنوان, احتل صدارته وأخذ دوره في البناء الروائي.

وفي رواية ” السادات والهدهد” وظف الراوي العنوان بشخصيتين محوريتين لا يستقيم العمل الروائي بأحدهما دون الآخر. وأعتقد إن دلّ فإنما يدل عن تجربة تشي بمدى سعة اطّلاع الراوي وحنكته ورجاحة عقله فلا يمكن أن يُؤتى به اعتباطيا أو على سبيل المصادفة. ف بين الدال والمدلول علاقة ضرورية  وهامة.

ما علاقة السادات بالهدهد , وما دلالته التاريخية؟

في تجربة مثيرة ودعوة متفردة يستدعي الراوي شخصية تاريخية ويعيد احيائها  كتناص مع الرواية القرآنية لتصبح أداة طيعة يعبر بها عن ذاتيته ورؤاه المعاصرة ليكتمل بها  الخلق الفني وتبدأ به شرارة الحدث وانطلاقته.” رَمــــــزيةُ الهــــــــــدهدُ  “أولا: من بين جميع مملكة الطيور يعتبر الهدهد أول مبعوث للسلام وهو الطائر الوحيد في مملكة “سليمان عَلَيْهِ السَّلاَم ” الذي استأثر باهتمامه. حين أتاه بالخبر اليقين ,وشكّل منعطفًا تاريخيًا في هداية مملكة سبأ وفي الميثولوجيا المصرية القديمة ” تاج المصريين ” رُبط بعين حورس وهي العين التي تَرى كل شيء, فهو رمز للبصيرة ووسيلة للتواصل مع العوالم الخفية واستطاع أن يُحِط بما لم يٌحِط به سليمان. فكانت الحكمة الربانية إدراك ذوي شأن من هم أصغر. 

فالهدهد يعيش متفردًا, ويضفى عليه طابعا الغموض و السحر وبالرغم من وجوده في ثقافات متفرقة لكنه لم يأخذ هذا المنحنى الايجابي والتنويري الا في النص القرآني مما تتشابك رمزيتها مع هــــدهد السادات, ذلك الأراجوز الذي استأثر باهتمام السادات فكان  يقينه وعينيه الثالثة لاقتلاع جذور الفساد.

ثانيا: المقاربة التاريخية بين” سليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ “و “السادات” والمفارقة كانت بعد وفاتهما ,بعد وفاة سيدنا سليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ  انقسم بنو اسرائيل على أنفسهم:  مملكة اسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب, وبعد وفاة السادات انقسم العرب بين مؤيدي ومعارضي لاتفاقية “كامب ديفيد” مما جعلته بطل السلام في عيون الغرب, عميل وخائن  في الشرق فكان سليمان والسادات منعطفات تاريخية في حياة الإسرائيليين .

ثالثا :  فكلاهما بلَغت شهرتهما الآفاق في تيسير الحكم والادارة , سليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ في تفقده لرعاياه وانضباطه والقدرة التنظيمية الفائقة للجيوش وإدارتها. و السادات الذي اشتهر بجرأته وحنكته ودهائه السياسي واسترجع الأراضي المصرية من القبضة الإسرائيلية خوفًا من أن تراق نقطة دم جديدة على أرض سيناء , بعدما ارتوت بدماء الشهداء والابرياء . 

 فعبر الراوي عن السادات بصورة حيادية شفافة أقرب للواقعية والصدق في التعبير . أملًا في التوجيه الدلالي للجمهور القارئ عل يجد من رؤياه سبيلا في التأثير والحكم السديد.

رابعا: السادات حقق معادلة “ما أوخذ بالقوة لابد أن يسترد بالقوة” لتتعادل القوى المتصارعة و يعيد توازنها ويملي شروطها فيما بعد السلام, ولم يراهن على القضية الفلسطينية أو تخلص من القومية العربية, أما بني اسرائيل وجدوه الصديق الأمثل الذي حقق له جزءًا من السلام المنشود وتنفسوا الصُّعداء, خاصة بعد الطوق الذي فرضته دول الجوار بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر.

السرد والوصف والحــــــــــوارجمعت الرواية بين تقنيات السرد: الوصف والحوار بلغة جزلة فصيحة وفي حدود ضيقة اللهجة المحكية المصرية, دون أن تثير قلق القارئ في البحث أو الركض وراء مفردات عصية على الفهم. ونقلت واقع  شخوصه بطريقة فنية محكمة تعتمد الدقة والاتقان في رسم التفاصيل متبنية شخصيات عادية وتاريخية على صلة وثيقة بالشخصية المحورية” السادات” وربطتهم في اطار تسلسلي نمطي وتفاعلي داخل النسق الروائي . وتركَ الراوي العَنان لكل شخصية  تطلق بواعثها وصراعاها النفسي دون أن يحاول كبح جماحها وجعل الصورة تنتقل بطريقة واعية لذهن المتلقي .

تناولت الرواية قضايا مجتمعية مصرية حساسة وشائكة, وأماط اللثام  عنها..

حلم السادات بالبناء والتعمير وغزو الصحراء, وكشف عن مشاكل مرتبطة بالعمالة  و الفلاح و الجور على الأراضي الزراعية و قضايا الصناعة وانهيار البورصة وسوق الاقطان, البذور و الاسمدة المسرطنة , الأطعمة الفاسدة, الفساد الإداري في الهياكل التنظيمية و التوظيفية  للدولة , و تجار الموت بالمستشفيات و الأدوية منتهى الصلاحية ومعالجات شتى لها.

      كما تناولت الرواية  أجزاء متفرقة عن حياة السادات ميلاده و أصوله ونشأته وانجازاته و الحياة داخل  أجواء “ميت أبو الكوم” ومعاملاته وتفقده لأبنائه من الفلاحين والعاملين وتحلقهم حوله، وكأنها  المهرب الوحيد  من مخاض السياسة ونبال الخيانة و قصاصات الشتائم والتفكير المستديم في التنحي وهذا ما أكدته بعض الثوابت والتأكيدات الكلامية   ” مصر أولا” .

لم يكن الشعر والشعراء بعيدا عن آفاق الراوي وهو يرسم لوحته الفنية  كيف وهو الشاعر الأريب بل وجد الشعر في بوتقته أرضًا خصبة  خلال النسق الروائي و المونولوجات الداخلية .


الدلالات المكانية و الزمانية :

لا يعتبر المكان عنصرا خاملا في البناء الروائي ولا يمكن فصله عن البعد الزمني فكلاهما يضيف جمالية في تأطير الرواية وتشكلها , فالمكان هو مسرح الأحداث و الحيّز الذي تتحرّك فيه الشخوص بحرية على امتداد الرواية  وتتفاعل وتتشابك، ومنه تتفجر الشرارة الأولى.. الحدث والزمن يعطي الصيورة والاحساس بالتحول من خلال التداعي الحر للأفعال و التغير من حالة لأخرى, فعبقرية الراوي تكمن في ايجاد المكان والزمان الملائم لانطلاقته وهي ما يعطي الحدث صقله ودلالته, التاريخية.. السياسية..  الاجتماعية . وقد استهل الراوي روايته بحرب تموز أو ما عرف” وادي الحجير 2006– مقبرة الميركافا ”  في تدفق يعتمد التشويق والاثارة والوصف الحركي, كيف انقلب السحر على الساحر،  وأثرها على الذات الداخلية الإسرائيلية مما يضيف إليه بٌعدا جديدًا وهو البعد الزمني النفسي, بعد اخفاقهم للوصول لنهر الليطاني.  فمنهم من يرى أنهم تنازلوا عن حقهم و أرضهم الموعودة من النيل للفرات وأنهم عادوا من شتاتهم لفخ نصب لهم. و الاتفاق فيما بينهم على ضرورة قيامة السادات وإعادته للحياة  فهو الوحيد القادر على إعادة صياغة السلام والتصدي للخطر الإيراني الذي ابتلع ثلث الوطن العربي, ويستمر تواتر الأحداث وتتابع في قالب فنتازي خارج عن المألوف, وتتعدد الأمكنة داخل البناء الروائي منها الخارجي  ومنها الداخلي داخل اسرائيل – فندق الملك داوود – كهف كسيم وداخل مصر مدينة نصر – القاهرة – ميت أبو الكوم – العباسية – أسوان – الاسكندرية ”  .–   

       وما استدعى انتباهي هي قرب المدة الزمنية الذي تناولت الرواية لأحداث ليست بالزمن البعيد ربما أراد لروايته أن تكون أقرب للواقعية التاريخية, تظل رواية السادات و الهدهد متفردة بمضمونها وحبكتها وكأنه “فلاش باك” يسير عكس اتجاه الساعة يزيل الغبار عن الماضي ويكشف لنا خبايا وخفايا المستقبل . وضع الراوي خاتمة جلية لروايته وهي النهاية المفتوحة وهي من أروع تقنيات الأدب, فلا أحد يملك أن يهب لأحد الحياة أو الموت الا الله. ويظل السؤال العصي ماذا لو لم يغتال السادات أو توقع اتفاقية كامب ديفيد؟

هويـــــده عبد العزيــــــز

تم عمل هذا الموقع بواسطة