الشعر رمق الظمآن في قفار الحياة ورتابتها، يلتمس فيه عذوبتها وحلاوتها كلما جف نبعه أو همدت حماسته وجاشت نفسه للتعبير، استنهضته صلصلة الأجراس و الأوزان بنغماتها الأخاذة واستنطقته ملكة البيان بغزارة معانيها ورقة مبانيها وحركت كمون فكره وشوارده بحورها واستلهم منها ما يطربه ويغنيه عن النسخ والتقليد. وليس هناك أيسر من نظم  الأشعار على لسان فُرسانها، فكم صحبتهم في حلهم وترحالهم. وكمْ زانت به مجالسهم و دواوينهم، مغازيهم وفتوحهم، أفراحهم وأتراحهم وكم ألهم وألهب نفوسا ووجدانا. وأسكرها العزة والفخر والعشق  كؤوسا ففاضت فرخا وشوقا وحنينا، وكم أستأصل شأفة الجهلاء والسفهاء فعادوا لكهوف جهالتهم صاغرين مطأطئ الرؤوس. 

وكم ألجم نفوسا وبعثرها نسيبا ورحيلا وكم أبرحها هجاء وأثقلها رثاء وعويلا ونحيبا. في زمن داجن كئيب عز فيه الخائن والمداهن والجبان ... الشعر مدارج السالكين لخزائن الأدب ومسرى المتأدبين في فضاء الغواية ودولة السحر والبيان من مجاز واستعارة وكناية وقدس الأقداس لما أنبته في النفوس من لهفة للأحاديث وشوق الأجاويد. هي مملكة أثيرة  عسيرة على أعدائها محصنة ببلاغتها، منيعة ببيانها، محكمة بمعانيها، مملكة الشعر شواهدها حاضرة حاضنة للأصالة والبداوة في نقاوتها وبكارتها ومادتها الأولى الخام. مستهدفة ممن جمحت بهم ميطان الحداثة، وأعجزتهم بلادة الحس وسطحية التفكير وشح المورد عن نظم القصيد وفهم مراميه.ومن ضللهم لبوس الفكر فحاد عن الطريق ومال إلى الأهواء، فلا يعرف له موطن قدم من الإعراب والأعراب أو ليته يرقى لمقام العرب في نخوتهم وعزتهم..الأشعار وطين العاطفة والحس والشعور. هي حيوات بعثت  لتنير عالمنا لها منازل ومواضع منها المؤتلف ومنها المختلف منها المعلوم ومنها المجهول، لكنها في ذاتها أكوان متناغمة ومنسجمه، لا يحدها حدود، لا تضيق بدماء جديدة.

 ولا ندعي الصورة المثلى أو من  نسج مخيلتنا  فهم  أبناء الريح  أعزة في أنفسهم، لهم  أنفة وحمية وقوة غاشمة ضاربة جامحة وثابة، تتفاضل فيما بينها لكنها لا تعدو أو تنفصم وثيقة العرى بتراثها كلما اشتد الوطيس.في أوبة الخيال كل مضمار له كبوات ولفحات عاصفات قاطعة طريق أ ونفحات ندية عابرة سبيل بين أريج وعبير الكلام كلما خمد رمادها، وزهر شباب لا ينضب معينه ولا يشيخ، لُحمة وجدانية وتعبيرية تنهض وتستنهض. تنتفض وتسكن، تستفهم وتستطلع، تحب وتكره وتسعد وتشقى وتعجب وتستثني، لكنها لا تلين في غُضة و لا تستكين لمذلة او منقصة.

تم عمل هذا الموقع بواسطة