كظـــــــــــــــــــلِ الغمـــــــــــامِ
*************************
تَراءَى لي طيفًا من خلف العتمةِ ، شيخاً ًعجوزاً، يلتفُ حَولَهُ أُناسٍ ليسوا بهيئةِ البشر ، لم أر مثلهم طيلةَ حياتي ، كهولاً بلُحًى بيضاء.
مهيبوا الطَّلعةِ ،و قِصَارِ القامة.
وَجْه قَدَّ من ليلة بُهْر ، خفيفُ الروحِ
بدأ الشيخُ يتَقدّمُ بهدوءٍ ، من أوسطهم كما يَنْبَلِجُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ
مِن وَسَطِ السَّوَادِ.
و َأَوۡجَسَتُ مِنۡه خِيفَةً؛ علّهُ يَضمرُ الشرَ و الأذى .
مُسْتَبْشِراً بالسَّلامِ ورافعاً يدهِ اليمنى : سلام الله علی ابنتي:
لقد كنتِ أذن البلدِ و لسانها الأمين ،
فهناك من أقبلَ و هناك من كذَّبَ و أعرضَ.
وما جئتكِ إلا ناصحاً و منذراً
ربّ أبٍ لك لم تريه و معلماً لم تدركيه فما لا تبلغهُ الأبصارُ لاتدركهُ العقولُ .
ارْجِعْي نبيلةً و اوصلي ما انقطعَ عنك
هذا ليس قدرُكِ ، هذا الودُ حَبْلُ غَررٍ ،لا يخدعُكِ بريقُ الحياةِ الزائفِ و تُغرّكِ ، الحياةُ كظلِّ الغمامِ سرعان ما تنقضي .
وإن لم تعودي ستنالين نفسَ الجزاءِ الذي نالهُ عَمُكِ ، بلغي سلامي "للزيزفونة"، لقد أذّن الفجر و أَزَفَّ الرحيلُ ،و ارتدَّ من حيث آتى و من معه , لَفَحَني بردٌ قارسٌ فاِلْتَحَفتُ ببردةٍ سوداءِ كانت أهدتْها لي العمّة .
وجدتُني بآذانٍ و عيونٍ صمَّاء.
ياله من أرق؟! ما أكابده و أعانيهِ ...
كلما أسدلَ اللَّيلُ سِتارَهُ، من يمنعَ أطيافَ الخيالِ عن الطوافِ و أي ستارٍ يستطيعُ حجبهم ،
ظلّت الحيرةُ تعتصرُني وبدأت غصّتها ، إن لم تخُنِّ الذَّاكرةُ أين رأيته و متى ؟! كالعادةِ أحملُ ذاكرةً سمكةِ ،و لا أتذكرُ شيئا ، ومن "الزيزفونة" التي أوصاني بها ، شعرتُ بقشعريرةٍ حادّةٍ ، انتفضتُ من مكاني
لا أدري كم أستغرقَ شرودي
أشعرُ بهم حولي، بكل زاويةٍ،يراقبوني ، من حيث لا أراهم، ذاتُ الصورةِ لم تفارقُ مخيلتي ، وأنا أنزلُ على الدرجِ و الجدرانِ ، هذا التمثالُ الفرعوني الغرانيتي الرماديُّ ، كان موجوداً من سنوات
لقلتُ أنا متلبسةٌ بشيء .
كانتْ العمّةُ ممددةً في قيلولتها على كنبةٍ خشبيّةٍ من
الزَّان ، مرتفعةٍ جداً عن الأرضِ و بأذرعٍ جانبيّةٍ، تشعرُ و كأنّه عرشها الذي ورِثتهُ من جدتها "غنمت آمون " لا تفارقهُ و لا يفارقُها، لمحتُها مبتسمةً و بصوّتٍ ناعمٍ متناغمٍ و بنبرتِها السّاخرةِ:
( جنبري جنبي يا بنيتي ، أتوحشتك كتير قوي ، راقية دلوقيت ، صاحية عز الظهرية و الناس قامت من وش الفجرية وأنت عروسة زمانك من يومك ،تفطري و لا تتغدي بقيت مش عارفالك حالة )
- سامحيني يا عمّة، أرهقني السفرُ ، هل لديكِ ألبومٌ للصّور ؟! أريد أن أتذكرَ بعضَ الوجوهِ .
( أي يا ابنيتي ، بالدولابِ ..ناولتني المفتاحَ ، كانتْ تُخفيهِ برباطٍ كعقدٍ حول عنقها ، فتحتُ الألبوم وجلست على السريرِ اتأملُ في أسفارِ الماضي الوجوهِ ، حتى لمحتُهُ
كان .... كان الجدُ عبد العزيز !!
هو الذي زارك! .
لقد ولدتُ بعدَ وفاتهِ بثلاثةِ عقودٍ ،لكن صورتهُ لم تكن مطبوعةً بذاكرتي، فنحنُ لا نضعُ صوراً على الجدران.
ويُحرمُ علينا عرضها للغرباء
لطالما كنتُ أسمعُ حكاياتٍ و قصصَ الناسِ عن كراماتِ الصالحين و و و... عطاياهم .
و أنا صغيرةٌ ، اعتقدتُ من نسجِ مخيلاتهم و أهوائهم و عاداتهم و تقاليدهم المستهلكة و البالية، ما زالوا يؤدون فرائضها بخشوعٍ .
ماذا عنّي الآن ؟!
لمحتُ صورةً لأمّي ، متلحفةً ببردةٍ سوداءَ ، و أعينُها كزيتونةٍ، أظنُّ أنّي أشبهها لحدٍّ قريبٍ ،كيفَ لامرأةٍ مثلُها عشقتْ أبي ،قبلتْ أن تعيشَ بأجواءِ الصعيدِ، حينذاك .
أعدْتُ الألبومَ لمكانه.
وعُدْتُ لعمتي و السؤالُ يفتكُ بي ،
أحاولُ أن ألتمسَ في حكاياتِها الإجابةَ دون أن أُثيرَ فضولها أو دهشتها :
عمتي : كيف مات عمي ؟!
غَسِقَتْ عينَها ، رهبةُ السؤالِ أو الموتِ .
فقطعتْ حديثي : يا أسماءُ جهزي الغداءَ.
- ياعمة فضلا: لا أريد أن أتناولَ شيئاً ، إن شئتِ ؛ فلتعدْ لي فنجانَ قهوةٍ ،
- اشتغلتُ في النوحِ كالحمامِ (تشربي قهوة
من غير وكل ،جنيت اياك )
-يا عمة ألا تهمُكِ راحتي ،إحكي لي فضلاً
أطلقتْ تنهيدةً عميقةً فجّرتْ ما تبقى لديها من ينابيعٍ مختزنةٍ، ثمّ تابعتْ
طلبَ "جدُك"ِ "عبد العزيز" من "عمّك" ،أن يأتيه بماءٍ للوضوءِ ، من الفؤادية ،((الفؤادية: بناها "الملك فؤاد "عند الخزّان ، غرقت في وصفها ، من ينزل للفؤادية ، هذا الوحشُ الرقراقُ الكاسرُ المتدفقُ ،ببواباتهِ و عيونهُ الساحرةُ، تلتهمُ أي جسدٍ يقتربُ أو يحاولُ أن يقتربَ منها ، لكنه آخاذٌ ،ساحرٌ ،
عشقٌ فريدٌ أن تكونَ قطعتهُ من طينتهِ ، وكل نبتةٍ من أرضهِ الطيبةِ تستعمرُكِ وتزهرُ داخلك فَرَاديسَ امتنانٍ ،كم كانتْ حياتُهم
رغم بساطتِها تحفُها الأخطارُ )) .
عُدْتُ بشرودي إليها .
فذهبَ بالدلو ، وكلما أنزلَ الدلوَ ،كان يملؤه بشذراتِ الذهبِ ، فيعودُ لجدِكِ فينهاهُ و يقولُ له : يابنيّ! لا تخدعُكَ الحياةُ
هذا ليس ذهباً ،هذي نارٌ من جهنم، و العياذُ بالله! ، اللَّهمَّ أغثنا!! ، ويقول له: إرجع أريد ماءً للتوضّؤ ،
وفي كل مرّةٍ كان يفرغُ دلوهُ ، يعودُ بمثل المرةِ التي تسبقُها ،حتى أرهقهُ و أنهكتهُ الطّريق و اِنْتابَهُ غَضبٌ شَديدٌ: فصرخَ بوجهِ جدّكِ وقال: لِمَ تمنعُ رزقًا ساقهُ اللهُ إلينا حلالا طيّباً؟
لكن جدّكِ أبى و
أصرَّ على عنادهِ فما زال ينهاهُ ، و الآخرُ يتذمرُ و يتمرّدُ عليهِ .
فدعا عليه: كلتك النار ، و عندما رجع لبيتهِ كان أمرُ اللهِ نافذٌ و ذَمَرتِ النارُ و التهمتْ ألسنتُها البيتَ ،و ماتَ و هو يحاولُ إخمادَ الحريقِ .. و ظلّ الجدُّ
يبكيهِ بحُرقةٍ حتّى وفاتهِ و هو يقولُ: ماءً للتوضؤ لا للتلألُؤ .
ارتعبتُ من مجردِ السردِ و ربمّا مجردِ صدفةٍ
هل يصيبُني ما أصابَ عمي ؟!
ويتبع .............
من رواية #بخ_ناست_الطريق_ الى_ الوادي